قراءة في أطروحات المفكِّر علي محمد الشرفاء الحمادي (2)
يستعرض المفكِّر علي الشرفاء قضيَّة “حريَّة المعتقد” مقارنا بين تعاطي الخطاب الإلهي معها من جهة، والمرويَّات التاريخيَّة من جهة ثانية؛ موضحا تباينا وتناقضا بيِّنا بين الخطابين؛ ففي الوقت الذي تتواتر كل الآيات القرآنيَّة على مبدأ حريَّة المعتقد تأتي المرويّات لتقرِّر فرض عقيدة واحدة (موحدة) على الناس. (1).
يقرِّر الله -تبارك وتعالى- في محكم كتابه أنَّ إرادته اقتضت تنوُّع المعتقد وتعدّده، وأنَّ الذي يحاول جمع الناس على رأيٍ واحد أو عقيدة واحدة يحاول خرق وتحدِّي إرادة الله ونواميس كونه؛ فالاختلاف سنَّة كونيَّة موجودة وباقية أبدا { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَٰحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِين}. (2).
ويوضح القرآن ذلك، وبصورة مطلقة وصريحة؛ إذ يقول الله تبارك وتعالى { لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّين} (3) وهو إعلان لا لبس فيه لحرّيَّة المعتقد؛ إذ جاءت الصيغة بأقوى صيغ العموم في اللغة العربيَّة؛ إذ هي نكرة في سياق النفي والنهي معا؛ أي لا إكراه في جميع الصور؛ لا إكراه قبل أن ندخل في الدين، ولا إكراه أثناء وجودنا فيه، ولا إكراه بعد خروجنا منه. (4).
كما يعطي الله جل وعلا في صريح كتابه حريَّة الإيمان والكفر (معا) لعباده {وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} (5) ويذهب القرآن أبعد من ذلك؛ فيخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب لا يخلو عتبا، بل واستنكارا {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِين} (6).
ولا يخفى ما حمله هذا الأسلوب من استنكار؛ أي ليس لك إكراه الناس على إيمانهم؛ بل لا يعدو دورك إبلاغهم وإنذارهم، أمَّا قرار الإيمان أو الكفر فهم وحدهم المخوّلون باتِّخاذه (7) ويوضح هذا المفهوم ويشرحه في قوله جلَّ وعلا {فذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِر} (8) هذا المبدأ الإلهي الذي أعطى الحرّيَّة للإنسان في المعتقد، تتَّضح عموميّته وتجريده -أكثر- حين نرى كيف يستعرض القرآن الكريم حقّ المؤمنين في ممارسة الكفر بعد الإيمان، تماما، مثلما يملك الكفار حقّ الإيمان بعد الكفر، والله وحده -وفق النصّ القرآني- الذي يحقّ له معاقبة المؤمنين بعد الكفر، أو مجازاة الكفَّار بعد الإيمان؛ بمعنى أنَّ الكفر إثم وليس جرما (عكس ما سنرى لاحقا في المرويّات) يقول الله تبارك وتعالى {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلْإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْـًٔا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (9) ويقول الله {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِين} (10) حتى مصطلح “الردة” الذي استُخدم -لاحقا- في الروايات، وكُيّف له حدٌّ (على غرار الحدود) فإنَّه في القرآن لم يكن إلا جزءا من هذه الحرّيَّة (حريَّة المعتقد) يحقّ للشخص ممارسته، دون أن يتعرَّض لأي عقوبة دنيويَّة {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلـئِكَ أَصْحَابُ النّار هُمْ فِيهَا خَالِدُون} (11).
أي أنَّ الارتداد عن الدين لا عقوبة فيه، ولا شأن للسلطة -سياسيَّة كانت أو اجتماعيَّة- به، فالإيمان لا سلطة عليه إلا للضمير {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًۢا} (12) حيث يدلّ العطف بـ”ثم” على التراخي؛ أي أن الأمر المعطوف حصل بعد فترة من حصول المعطوف عليه، ويؤكِّد التكرار -كذلك- حصوله أكثر من مرَّة؛ بمعنى أن الكفر حصل بعد الإيمان بفترة، وأنَّ هذا الكفر تكرَّر أكثر من مرَّة، ولو كان هناك عقاب؛ لما كان القرآن أتاح للمرتدّ فرصة الارتداد أكثر من مرَّة، وأتاح له متَّسعا من الوقت بين الردَّة والأخرى.. لكن هذا حقّه الذي أعطاه الله، ولا يحقّ لأيٍ كان مصادرته. (13).
ويقول الله تبارك وتعالى توكيدا للآيات السابقة {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـَٔلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۗ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلْإِيمَٰنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيل} (14) ويقول كذلك {مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُۥ مُطْمَئِنٌّۢ بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} (15) ليس هذا حصرا لكل الآيات القرآنيَّة، التي تقرّ وتؤكِّد حريَّة المعتقد؛ وإنما هو -فقط- استدلال على هذا المبدأ القرآني الواضح والصريح؛ هذا المبدأ الذي يجعل قضيَّة الإيمان قضيَّة ضمير؛ لا سلطة فيها لأي أنواع من أنواع السلطة.. وإذا كان هذا هو مبدأ الخطاب الإلهي وأساسه؛ فكيف تعاطت المرويَّات مع هذه القضيَّة ؟ وهل -فعلا- ناقضت الخطاب الإلهي؟
تنطلق المرويّات التاريخيَّة من عكس المنطلق القرآني (16) إذ تبدأ من مسلّمة “إلغاء حريَّة المعتقد” مؤكِّدة -عبر سلسلة من المرويّات، يصنّفونها بأنها الأكثر صدقا ودقَّة- بأنَّه لا مجال في هذه الحياة لغير المؤمن، وأن الإنسان لا يقبل منه إلا الإيمان، أو العنق، وأنَّ هذه هي أوامر الله -حاشاه- لنبيه -ص- ( أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّه). (17).
هكذا يقرِّر هذا النصّ أنَّ الله أمر نبيه أن لا يترك للآخرين من خيار، إلا الموت أو الإيمان! وهو ذات المعنى الذي ستتعدَّد المرويات حوله وتختلف؛ فإذا كانت الرواية السابقة تشمل الناس كلهم بما فيهم غير المسلمين؛ فإنَّ مرويات أخرى جاءت خصيصا لتلغي حريَّة المعتقد للمسلمين دون غيرهم! إذ تقول بعض هذه المرويات إنَّه يحقّ لكل إنسان (ليس مسلما) أن يبدِّل دينه؛ أمَّا المسلم فإن ذلك لا يحقّ له، وحين يفعله يكون ثمنه قتله حدّا (في زعمهم) “من بدّل دينه فاقتلوه” (18) ورغم مناقضة معنى هذه الرواية للمبدأ القرآني المقر -دون لبس- مبدأ حريَّة المعتقد للجميع (مسلمين وغير مسلمين) رغم هذا فإن الرواية جاءت حاملة معها لبسا لا يليق بنصٍّ يؤسِّس لحكم بهذا الحجم، وهذه الخطورة (القتل) وإذا كان غالبيَّة التراثيّين قد أخذوا من هذه الرواية وجوب قتل المرتدّ عن الإسلام؛ فإنَّ الرواية لا تقول ذلك؛ وإنما تقول بقتل كل من غير دينه، بغضّ النظر عن طبيعة الدين المغير.. أمَّا أولئك الذين يحتجُّون بأن الدين لا يقصد به إلا الإسلام لقوله تبارك وتعالى { إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَام} (19) فإن محاججتهم مردودة عليهم؛ وذلك لأنَّ الإسلام في الخطاب الإلهي يقصد به كل أتباع الديانات الإبراهيميَّة (اليهوديَّة، المسيحيَّة، الإسلام) وهو موضوع آخر سنتناوله لاحقا.
وتتواتر المرويّات في هذا الإطار وبنفس المعنى، ملغيَّة أي حريَّة للمعتقد، فارضة عقيدة واحدة “لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيّب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ” . (20).
هكذا نرى الفرق جليًّا بين الخطاب الإلهي: ذلك الخطاب الذي يؤسِّس لحريَّة المعتقد ويرسّخها ويحميها؛ جاعلا من الإيمان قضيَّة قناعة ذاتيَّة، ليس لبشر التدخل فيها، ولا مراقبتها؛ إنها إرادة الله وسننه في خلقه السيارة إلى يوم الدين {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (21) وبين مرويّات تراثيَّة: تقوم على أساس محاربة حريَّة المعتقد، والتفتيش في ضمائر الناس، والتدخُّل في قناعاتهم، فأي الخطابين الذي يمكن اعتباره خطابا إسلاميا؛ ذلك الخطاب المتماشي مع الفطرة، والذي جاء من عند الله دون خلاف أو شك..؟! أم ذلك الخطاب الذي أنتجه بشر في سياقات محدَّدة، ولأغراض محدودة، ويتنافى مع إخلاص العبوديَّة لله؛ لأنه يجعل الإيمان إكراها بالقوَّة، وهو ما يؤدِّي -بالضرورة- إلى إنتاج المنافقين، وليس المؤمنين، ويؤدِّي -كذلك- إلى تشويه الإسلام وتصويره دينا أحاديا دكتاتوريا، لا يقبل الاختلاف، ولا يقبل غيره.. ؟!(22).
(1) ومضات على الطريق (الجزء الثاني) مقترحات لتصويب الخطاب الإسلامي، علي محمد الشرفاء الحمادي/ مؤسَّسة الموريتاني للنشر والإعلام والتوزيع، الطبعة الأولى 2019 ص235.
(2) سورة هود، الآية:118.
(3) سورة البقرة، الآية: 256.
(4) ومضات على الطريق (مصدر سابق) ص: 237.
(5) سورة الكهف، الآية: 29.
(6) سورة يونس، الآية: 99.
(7) ومضات على الطريق (الجزء الثالث) المسلمون بين الآيات والروايات، علي محمد الشرفاء الحمادي/ مؤسسة رسالة السلام للأبحاث والتنوير بموريتانيا الطبعة الثالثة 2020 ص: 158.
(8) سورة الغاشية، الآية: 21.
(9) سورة آل عمران، الآية: 177.
(10) سورة التوبة، الآية: 66.
(11) سورة البقرة، الآية: 217.
(12) سورة النساء، الآية: 137.
(13) ومضات على الطريق (الجزء الثاني) مصدر سابق، ص: 235.
(14) سورة البقرة، الآية: 108.
(15) سورة النحل، الآية: 106.
(16) المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي، علي محمد الشرفاء الحمادي، مؤسسة الموريتاني للنشر والإعلام والتوزيع الطبعة الثالثة 2018 ص: 121.
(17) صحيح البخاري، كتاب الإيمان (الجزء الأول) دار الكتب المصريَّة الطبعة الأولى 1986 ص: 17.
(18) صحيح البخاري (مصدر سابق) كتاب الجهاد والسير (الجزء الثالث) ص: 1098.
(19) سورة آل عمران، الآية: 19.
(20) صحيح البخاري (مصدر سابق) كتاب الديات (الجزء السادس) ص: 2529.
(21) سورة يونس، الآية: 99.
(22) المسلمون بين الخطاب الديني والخطاب الإلهي (مصدر سابق) ص123.