” سأكون رئيسا للجميع مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية، أو خياراتهم الانتخابية، وسيكون هدفي الأوحد والأسمى خدمتهم جميعا والعمل الجاد على تحقيق آمالهم جميعا”.
من خطاب رئيس الجمهورية في يوم التنصيب (1 أغسطس 2019).
ربما لم تستوقف عبارة “سأكون رئيسا للجميع” الكثير ممن استمع في ذلك اليوم لخطاب التنصيب، وذلك لكون هذه العبارة أصبحت لازمة لا يُعْتَدُّ بها في خطابات التنصيب، فمن النادر جدا أن يخطب رئيس في يوم تنصيبه إلا وقال بها، ومن النادر كذلك أن يلتزم بها من قال بها، خاصة إذا ما كان المتحدث رئيس دولة ما تزال تخطو خطوات متعثرة في مسيرة الديمقراطية، كما هو الحال بالنسبة لبلدنا.
الآن دعونا نطرح السؤال : هل حاول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال ما مضى من مأموريته أن يكون رئيسا للجميع؟
في اعتقادي الشخصي أنه حاول بجد وعمل على تحقيق ذلك، ومن مظاهر تلك المحاولات وتجليتها يمكننا أن نذكر:
1 ـ الاستقبالات المتكررة لقادة المعارضة في القصر الرئاسي؛
2 ـ رفع الظلم والإقصاء عن البعض بسبب مواقفهم السياسية؛
3 ـ تشكيل لجنة تحقيق برلمانية تضم نوابا من الأغلبية والمعارضة؛
4 ـ إعطاء مؤسسة المعارضة مكانتها لبروتوكولية التي تستحق؛
5 ـ تعيين بعض الأطر المحسوبين عل المعارضة؛
6 ـ اصطحاب بعض المعارضين في وفود رئاسية، وحضور الوزراء لأنشطة ينظمها منتخبون معارضون؛
7 ـ مصادقة مجلس الوزراء المنعقد في يوم 02 ديسمبر 2020 على مرسوم يقضي بإنشاء المجلس الوطني للحوار الاجتماعي؛
8 ـ تشكيل تنسيقية للأحزاب الممثلة في البرلمان بعد ظهور جائحة كورونا، وضمت هذه التنسيقية أحزابا من الأغلبية وأخرى من المعارضة، ومن اللافت أنها أصدرت بيانات تنتقد فيها بعض أوجه التقصير في العمل الحكومي. أنظر بيان 14 مايو 2020، والذي جاءت فيه عشر نقاط تشير كلها إلى بعض أوجه تقصير الحكومة، وهذه النقاط العشر قد وقع عليها حزب الاتحاد من أجل الجمهورية!
في النقطتين السادسة والسابعة من البيان المذكور تمت المطالبة بتخفيض الأسعار، وقد جاء في النقطة السابعة وبالحرف الواحد : “تطالب (منسقية الأحزاب الممثلة في البرلمان) الحكومة بتخفيض أسعار المحروقات، خاصة وأن أسعارها العالمية وصلت أدنى مستوى لها منذ عقود”.
هل فيكم من كان يتوقع أن حزب الاتحاد من أجل الجمهورية سيوقع على بيان يتضمن المطلب الرئيسي الذي كان يرفعه حراك “ماني شاري كزوال”، وأن ذلك البيان سينشر كاملا على موقع الوكالة الموريتانية للأنباء؟
هناك من ينتقد ـ وبقوة ـ بعض أحزاب المعارضة، وذلك لأنها أصبحت في نظره تهرول في اتجاه النظام، ولكن هؤلاء لا ينظرون إلى الوجه الآخر من المشهد، فلو نظروا إليه لرأوا حجم الخطوات الهامة التي اتخذها رئيس الجمهورية في مجال الانفتاح على معارضيه، وهذه الخطوات الهامة والتي أشرنا إلى بعضها هي التي جعلت بعض داعمي الرئيس يقول إن الرئيس أصبح يستقبل في القصر الرئاسي معارضيه أكثر من داعميه.
علينا أن نتذكر دائما بأن السلطة الحاكمة هي التي تحدد طبيعة معارضتها، فإن كانت تلك السلطة صدامية فمن الطبيعي جدا أن تكون معارضتها راديكالية تسعى إلى التأزيم. أما إذا كانت تلك السلطة منفتحة وغير صدامية فمن الطبيعي جدا أن تكون معارضتها أكثر انفتاحا وأقل صدامية.
بالعودة إلى بيان المنسقية السابق فسنجد أن هذا البيان خُتُمَ بالفقرة التالية : “تأمل أحزاب الموالاة والمعارضة الممثلة في البرلمان أن تُفضي خطوات التنسيق الحالي إلى الدخول في مرحلة جديدة، تُمهد لنقاش القضايا الجوهرية للبلاد ووضع تصور لمعالجتها، وفق جدول زمني متفق عليه.”
وعملا بهذه الفقرة الأخيرة فقد أصدرت أحزاب المنسقية في يوم الأربعاء الموافق 24 فبراير 2021 خارطة طريق من أجل تشاور شامل بين القوى السياسية. ويمكن القول إن هذه الخارطة تتضمن العديد من نقاط القوة التي قد تساعد في نجاح التشاور المنتظر، ويمكن إجمال هذه النقاط في :
1 ـ أن الدعوة لهذا التشاور لم تأت بمبادرة من جهة سياسية واحدة، أو من فريق سياسي واحد، وإنما جاءت بمبادرة مشتركة ضمت عددا معتبرا من الأحزاب السياسية المحسوبة على الأغلبية والمعارضة؛
2ـ أن إعداد وثيقة خارطة الطريق هذه قد أحيط بالكثير من السرية، فلم يتسرب محتواها من قبل توقيع الأحزاب عليها ونشرها، ومن المعروف أن التسريبات الإعلامية كثيرا ما كانت تؤدي إلى فشل الحوارات، وخير مثال على ذلك التسريبات الإعلامية التي أفشلت في آخر لحظة الاتفاق الذي كان سيعقد بين الحكومة والمعارضة قبيل رئاسيات 2019؛
3 ـ أن مواضيع التشاور التي تم تحديدها في خارطة الطريق لا تخص قضايا جزئية أو ملفات محددة، وإنما تشمل أهم القضايا الوطنية الملحة؛
4 ـ أن الدعوة لهذا التشاور لم تأت في ظل أزمة سياسية كما تعودنا من قبل، وإنما جاءت في فترة هدوء سياسي، الشيء الذي قد يساعد كثيرا في إنجاح هذا التشاور؛
5 ـ أن التشاور المنتظر لن يقتصر فقط على الأحزاب السياسية الموقعة على وثيقة خارطة الطريق، وإنما تم تشكيل لجنة اتصال ستتصل بالحزبين اللذين انسحبا في وقت سابق من المنسقية، كما ستتصل ببقية الأحزاب والقوى السياسية الأخرى لدعوتها للمشاركة في اللجنة التحضيرية التي ستتشكل مستقبلا للتحضير للتشاور؛
6 ـ أن الوثيقة حددت مبدئيا سقفا زمنيا معقولا، وهو قابل للتعديل: ثلاثة أو أربعة أسابيع للمرحلة التحضيرية، وخمسة أو ستة أسابيع لانطلاق التشاور؛
7 ـ أن مواضيع التشاور ستشمل كل الملفات والقضايا الكبرى : المسار الديمقراطي؛ الوحدة الوطنية؛ الحكامة الرشيدة؛ المحافظة على البيئة ومعالجة آثار التغيرات المناخية؛ حماية المصالح العليا للبلد.
8 ـ أن خارطة الطريق حددت مبدئيا آليات تطبيق مخرجات التشاور، حيث جاء فيها أنه سيتم إصدار وثيقة نهائية موقعة من طرف المشاركين و تتضمن نقاط الإجماع التي تم الاتفاق عليها، وأنه سيتم كذلك تحديد آلية متفق عليها لضمان تنفيذ ما جاء في وثيقته النهائية من نقاط إجماع؛
9 ـ أن هذا التشاور سيأتي بعد عقد من الصراعات والتجاذبات الحادة بين الموالاة والمعارضة، والتي لم تأت بنتيجة تذكر، الشيء الذي يجعلنا نفترض أن حماس الجميع سيكون كبيرا لتجريب التشاور والحوار علَّهُ يأتي بنتائج أفضل مما أتى به التصادم والصراع بين الأغلبية والمعارضة، وسيأتي إن شاء الله بنتائج أفضل إن حَسُنَت نيات المشاركين .
من الراجح ـ إن سارت الأمور بشكل سليم ـ أن القوى السياسية ستتوصل في نهاية المطاف إلى وثيقة سياسية تتضمن إجماعا على كبريات القضايا الوطنية مع وضع آلية لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه. وستمثل تلك النقاط “برنامجا وطنيا لا انتخابيا فقط” سيعمل الرئيس على تحقيقه، وبمشاركة ودعم من طرف كل القوى السياسية في البلد.
إنه من حقنا أن نحلم بالوصول إلى تلك اللحظة السياسية الفريدة من نوعها والتي ستجتمع فيها الأغلبية والمعارضة على “برنامج سياسي وربما تنموي موحد”، وإنه من واجبنا جميعا أن نعمل معا من أجل الوصول إلى تلك اللحظة السياسية الفريدة من نوعها، والتي نحن اليوم في أمس الحاجة إليها.
حفظ الله موريتانيا…