فى ظل انعدام رؤية إعلامية قارة ، واستراتيجية اتصالية مدروسة ، تشكل مرجعية واضحة لعمل الإعلام العمومي فى بلادنا خلال العقد الأخير ، فقد غابت المؤسسية والمهنية ، وطغت الفردية والارتجالية ، وبات لزاما على المهتمين بالحقل ، التفكير جديا فى بلورة مقاربات علمية وتقديم قراءات نقدية ؛ إسهاما فى الإصلاح المنشود والمسنود بإرادة سياسية وتنفيذية عاقدة العزم على إحداث تحول جذري فى المشهد الإعلامي الوطني ؛ استئناسا بتوصيات ومخرجات تقرير اللجنة الوطنية لإصلاح قطاع الصحافة.
إننا فى هذه اللحظة الفارقة من تاريخنا المعاصر ، بحاجة ماسة وضرورة حاقة إلى التأسيس لإعلام عمومي مؤسسي مهني ، يكرس قيم الديمقراطية والتعددية ، ويجسد ثقافة الخدمة العمومية ، ويشكل رافعة حقيقية للتنمية.
وتروم هذه الورقة تقديم مساهمة متواضعة ، لتشخيص واقع مكونة الإعلام العمومي ، استنطاقا للإطار التشريعي والمؤسسي الناظم لها ، بعد تحرير الفضاء السمعي- البصري ، واستخلاصا لضمانات وآليات عملية نراها ضرورية لترسيخ قيم التعددية والمهنية ، وتجسيد فلسفة الخدمة العمومية ، وذلك من خلال المحاور التالية :
الإطار التشريعي والمؤسسي:
نظرا للدور المحوري للإعلام في تشكيل الوعي المجتمعي وصناعة الرأي العام ، وسعيا إلى ترسيخ قيم التعددية والثقافة الديمقراطية في حقل استراتيجي بات يمتلك ناصية التقانة ويقود قاطرة التنمية ، فقد قررت بلادنا تحرير الفضاء السمعي البصري وتحويل الإعلام الحكومي إلى إعلام عمومي مفتوح أمام مختلف الطيف السياسي والمجتمعي ، وجميع تيارات الفكر والرأي والتعبير .
وقد تطلب هذا القرار خلق إطار مؤسسي وتشريعي لضبط وتنظيم المشهد الإعلامي الوطني ، وذلك ما تم التمهيد له من خلال القانون : 034 / 2006 القاضى بإنشاء السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية باعتبارها الهيئة المستقلة المسؤولة عن ضبط ورقابة قطاع الاتصال من خلال السهر على تطبيق التشريعات والنظم المتعلقة بالصحافة والاتصال السمعي البصري.
وقد شكل القانون 045/2010 المعروف بقانون تحرير الفضاء السمعي البصري ، محطة بارزة في مسار الإعلام الموريتاني ، نظرا لما واكبه من تشكل مشهد إعلامي جديد ، حيث فتح آفاقا وفضاءات رحبة ، بيد أنه طرح رهانات وتحديات جمة في الآن ذاته .
واستجابة لمقتضيات هذا القانون ، وانسجاما مع مخرجاته ، وسعيا إلى ملاءمة وضعية مؤسسات الإعلام العمومي مع المتطلبات والمقتضيات القانونية الجديدة ، فإن عملية تحول جذري لابد أن تطال مضامين ومحتويات المساطر البرامجية لهذه المؤسسات التي تحولت في ضوء هذا الإطار التشريعي والمؤسسي من وسائل إعلام حكومية تحتكرها الدولة إلى مؤسسات خدمة عمومية .
ومؤسسة الخدمة الإعلامية العمومية هي أداة لإرضاء الجمهور بكل مكوناته ، وهي فضاء ديمقراطي يلبي تنوع الأذواق ، ويعكس تعدد الآراء ، ويسعى للتلاقح وتبادل الأفكار .
فالخدمة العمومية مفتوحة ـ دائما ـ أمام مختلف مكونات الطيف السياسي والمجتمعي وجميع الفاعلين والنقابيين والمهنيين والحقوقيين ، لتمكينهم من النفاذ العادل والولوج المنتظم والمشاركة المتوازنة في مناقشة القضايا الوطنية ؛ السياسية والفكرية والثقافية والحقوقية والاجتماعية والتنموية ، وبحث جميع المشاغل والاهتمامات ، واستشراف الشؤون الاستراتيجية بحضور النخب الموريتانية على تنوع مشاربها وخلفياتها السياسية والمجتمعية ، وتعدد تياراتها ومرجعياتها الفكرية والإيديولوجية .
وبذلك يتمكن الإعلام العمومي انطلاقا من الإطار التشريعي الجديد من القطيعة مع الأحادية والتحول إلى إعلام يكرس مبادئ الحوار والتعددية ، ويرسخ قيم الانفتاح والحرية من خلال النقاش المفتوح الحر البناء ، القائم على تبادل الأفكار والآراء والاختلاف الخلاق .. الذي ينتج الاتفاق .
غير أن فعل سن القانون ليس كمثل العمل على تنزيله وترجمة مواده إلى سلوك مؤسسي ، خصوصا في حقل الإعلام الذي تتجاذبه إرادات ونزعات متباينة من مختلف الفرقاء والفاعلين الراغبين في التواصل مع محيطهم السياسي والاجتماعي والثقافي لترويج خطابهم والتأثير في الرأي العام .
ويرى البعض أن الإعلام العمومي استطاع ـ إلى حد ما ـ الانفتاح على مكونات الحقل السياسي والثقافي والإيديولوجي في المجتمع الموريتاني ، سعيا للاستجابة لانشغالاته والتأقلم مع تطلعاته والقضايا التي تمس الحياة اليومية للمواطنين .
بينما يعتقد آخرون أنه لم يستطع مواكبة التحول الديمقراطي الجديد ، وما يزال أسيرا لبعض الممارسات المهنية التقليدية ، فرغم مناخ الحريات الواسعة التي يتمتع بها الإعلام السمعي البصري ، والمشهد الإعلامي عموما ، إلا أن المسار المؤسسي لتحويل الإعلام الحكومي إلى إعلام خدمة عمومية لم يرق إلى ابتداع طرق وأساليب جديدة تكرس قواعد العمل المؤسسي والتواصل الشفاف المنبثق من قيم الممارسة الديمقراطية والمنتج لها في شكل مخرجات ترضى تطلعات الجميع ، وتحظى بتوافق الفاعلين السياسيين والحقوقيين والنقابيين والمهنيين ، والنخبة المجتمعية بشكل عام ، وهذا ما يؤكد أن جوهر المشكلة لا يرتبط بمنسوب الحرية ، وإنما بترجمة النصوص والقوانين إلى مضامين ومحتويات ملموسة ، فالأمر لا يتعلق بقرار وإنما بتصور ، فقرار التحرير مكسب ديمقراطي مهم ، ولا بد أن يواكبه تصور مهني يجسد فلسفة الخدمة العمومية ، وينتج مضمونا إعلاميا تعدديا يعكس تنوع الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات بشكل عادل ومتوازن .
الضمانات والآليات :
إذا كنا قد تعرفنا على السياق التشريعي والمؤسسي الذي انبثقت عنه التعددية وتحول المؤسسات الإعلامية من مؤسسات إعلام حكومي إلى مؤسسات خدمية عمومية ، فسنحاول التعرف على أهم الضمانات والآليات الضرورية لترسيخ مبادئ التعددية والمهنية ، وتأمين نفاذ الفاعلين السياسيين والمجتمعيين ومختلف المواطنين إلى الإعلام العمومي .
لا شك أن مؤسسات الإعلام العمومي تتوفر على مقومات تؤهلها لكسب رهان هذه التجربة ، ومن أهمها على سبيل المثال لا الحصر :
امتلاك باقة تلفزيونية وشبكة إذاعية تشتملان على تخصصات متعددة ، وهو ما يدعم التنوع الإنتاجي ، ويثري المادة الإعلامية ، ويلبي حاجات واهتمامات جمهور المستمعين والمشاهدين من خلال الاستغلال الأمثل للانتشار البنيوي والبعد الشبكي للإعلام العمومي على المستوى الوطني .
التمتع برصيد كبير من التجربة والخبرة الطويلة في التواصل والتعاطي مع الجمهور ومصادر الأخبار وقواعد الإنتاج .
توفر طواقم صحفية وموارد بشرية ، تتمع بالجاهزية الكمية ، وإن كانت تحتاج إلى الاشتغال الجدي على المقاربة النوعية .
احتضان إرشيف إذاعي وتلفزيوني ، غني بالمواد الإعلامية التي تشكل ذاكرة للوطن .. تاريخه وتراثه .. ماضيه وحاضره.. أدبه وفنه ، فهو كنز زاخر يتعين حفظه وصيانته لتمكين مختلف الفاعلين من استغلاله والاستفادة منه طبقا للقوانين والضوابط المنظمة لذلك .
وبالإضافة إلى هذه المقومات الهامة ، يتعين على مؤسسات الإعلام العمومي أن تشتغل على تحقيق جملة من الضمانات والآليات الأساسية لخلق بيئة ملائمة لاستقطاب الفاعلين السياسيين والمجتمعيين، وإشراك الجمهور المستهلك للرسالة الإعلامية في إنتاج المضامين والمحتويات من خلال :
تصميم مساطر برامجية شاملة ، مؤسسة على مرجعية إعلامية واضحة ، واستراتيجة إنتاجية مدروسة ، تراعي مختلف الحاجات الفكرية والسوسولوجية ، وتستجيب لمتطلبات العصر وأولويات التنمية ، وتتيح مشاركة جميع النخب الوطنية في حوارات مفتوحة وقادرة على مواكبة قيم الانفتاح والحرية .
تحديد خط تحريري له ثوابته ومرتكزاته التي لا تقيدها إلا ضوابط المهنية وأدبيات وأخلاقيات العمل الصحفي مع وجوب تحصين وحماية هذا الخط التحريري من كل المؤثرات والإكراهات الخارجية .
تجذير وترسيخ ثقافة الحرية وما يرتبط بها من قيم الوعي والمسؤولية والمهنية .
تكريس مبدأ استقلال الصحفيين وإعلان ولائهم للجمهور وللمجتمع باعتبارهم قائمين على تأدية خدمة إعلامية عمومية .
انتهاج مقاربة إعلامية تسعى إلى تطوير الإنتاج من خلال تسخير كل الطاقات البشرية ، والموارد المالية واللوجستية لخدمة الإنتاج بوصفه الهدف والغاية من العملية برمتها .
استقطاب الكفاءات الإعلامية والأكاديمية ، بغية الاستفادة من عطائها العلمي وقدراتها المهنية لخلق جو من الإبداع والإبتكار والتجديد الذي يشكل وقود العمل الصحفي .
إشراك الصحفيين في مراكز القرار ، من أجل تجاوز عهود القطيعة بين البنية الإدارية والبنية الإنتاجية ، حتى تصبح العملية الإنتاجية ذات طبيعة أفقية تشاركية .
تكثيف التكوين بشكل منتظم ومطرد لتمكين الصحفيين والفنيين من المتابعة والإطلاع على آخر التقنيات والمستجدات في مجال اختصاصهم .
إعداد قاعدة بيانات واسعة ، تشمل الباحثين والأكاديميين والخبراء والمتخصصين من مختلف مكونات النخبة السياسية والعلمية والمجتمع المدني وقادة الرأي ورجال الفكر والثقافة والأدب .
تفعيل دائرة التغطية الإخبارية لتشمل التحليل والتأمل والقراءات المهنية الفاحصة لما وراء الأحداث والمستجدات في كل الأبعاد ، من خلال وضع آلية جديدة للتغطية ، تشرك الفاعلين والخبراء والمواطنين ، والابتعاد عن القوالب الجامدة واللغة الخشبية والسرد لبروتوكولي للأحداث .
وضع تصور جديد وآلية مهنية لإدارة البرامج الحوارية ، تضمن التوازن والمهنية والجرأة في تناول المواضيع واختيار الضيوف ، وزوايا المعالجة دون محاذير أو تابوهات أو قيود وهمية .
تشجيع التخصص الإعلامي ، وتنويع المحتويات والمضامين ؛ استجابة للحاجات العلمية و الثقافية والتنموية والترفيهية لجمهور المتلقين.
الابتعاد عن لوثة التداخل غير المنهجي بين الحقول الإعلامية ، والنأي عن المنزع الغريب نحو الشمولية والموسوعية الموهومة ، لما ينجم عنها من خلط للأدوار والتباس فى الوظائف وتشويش على الصلاحيات.
تجسيد إعلام القرب ، من خلال إشراك المواطنين بمختلف مستوياتهم فى إنتاج مضمون الرسالة الإعلامية ؛ تكريسا للعلاقة التفاعلية بين المواطن والدولة ، وتعبيرا عن حاجاته المادية والمعنوية.
توظيف كافة الأجناس الصحفية فى مجال التغطيات الإخبارية والبرامج الحوارية ، لضمان توسيع الدائرة الديموغرافية والخريطة الجغرافية للجمهور المستفيد من الخدمة الإعلامية العمومية ، وخصوصا فى الأرياف والمناطق النائية.
خلاصات واستنتاجات :
وإذا توفرت هذه الضمانات والآليات ، فستشكل مدخلا هاما نحو إرساء إعلام عمومي مؤسسي تعددي ومهني ، يضمن نفاذ الفاعليين السياسيين والمجتمعيين إلى منابر مؤسسات الإعلام العمومي ، لأنها ستصبح مستجيبة لأهم مطالبهم ، ومنسجمة مع توجهاتهم دون إقصاء أو استثناء .
وبذلك تتمكن هذه المؤسسات من تجسيد روح الانفتاح ومضمون الخدمة العمومية من خلال :
* كسب رهانات الحرية والتعددية ، خدمة للأهداف التنموية ، لتصبح فضاء حرا للتلاقي بين الفاعلين السياسيين والمجتمعيين والخبراء والمواطنين حول مشاغل واهتمام الشأن الوطني العام .
* إحداث قطيعة مع عهود الجمود والركود ، والتأسيس لثقافة الانفتاح والمهنية والموضوعية والجرأة في الطرح حتى لا تظل رهينة المحبسين ؛ محبس الوصاية الرسمية ومحبس المصادرة الذاتية .
* التحول إلى رافعة للتنمية وركيزة أساسية لتكريس قيم الديمقراطية ومبادئ التعددية .
* التعبير عن التنوع الثقافي لمجتمعنا الذي يتمتع بخصوصية سوسيولوجية فريدة ، انبثقت من رحم التلاقي بين ثراء البعد الإفريقي والعمق العربي الإسلامي .
* لعب الدور المحوري للإعلام في تشكيل الوعي المجتمعي وصناعة الرأي العام .. وخلق التفكير الاستراتيجي .. وإنتاج الأفكار والرؤى والمقاربات السياسية والفكرية والسوسيولوجية والتنموية .