عرفنا في هذه البلاد عدة أشكال من الحصانات السلبية المعيقة لبناء دولة القانون والمؤسسات، وتأتي على رأس تلك الحصانات السلبية الحصانة القبلية التي ازدهرت مع بداية المسلسل الديمقراطي. في بلادنا لا يمكن أن يُلقى القبض على مفسد معلوم الفساد، إلا وتحركت قبيلته ـ دون خجل ـ للتضامن والدفاع عنه.
في السنوات الأخيرة ظهر نمطٌ جديدٌ من الحصانة السلبية، ويتمثل هذا النمط في الحصانة الحقوقية وربما الشرائحية، فأصبحت بعض المنظمات الحقوقية وبعض الشرائح تقوم بنفس الدور السلبي الذي كانت تقوم به القبيلة.
هذا النمط الجديد من الحصانة السلبية المتمثل في الحصانة الشرائحية والحقوقية هو الذي يمكننا من أن نفسر سكوت القضاة عن إساءات النائب بيرام ولد الداه ولد اعبيد المتكررة للقضاء، وسرعتهم في الإعلان عن تحريك دعوى ضد النائب عبد السلام ولد حرمه. فلماذا تجاهل قضاؤنا الموقر خلال كل السنوات الماضية إساءات صريحة ومتكررة من النائب بيرام، وذلك في الوقت الذي يُسارع فيه اليوم للتصدي لما قيل إنه إساءة من النائب عبد السلام؟
لا تتوقف الحصانات السلبية في المجتمع عند هذا الحد، بل إنها تشمل نمطا آخر من الحصانات أكثر خطورة، توفره النقابات العمالية والمهنية والطلابية.
اليوم يمكن لأي مدون أو صحفي أن يسيء على من يشاء، وأن ينتهك عرضه، وأن يتهمه في فضاء عام بتهم لا يملك عليها أدلة، وعندما يقرر الضحية المظلوم أن يلجأ إلى العدالة لأخذ حقه، تطلق صفارات الإنذار في هذا الفضاء الأزرق، وتتحرك نقابات وروابط واتحادات الصحفيين، فتنطلق حملات التضامن الواسعة، لدرجة قد يُخَيَّل فيها للضحية المسكين أنه هو الظالم وليس هو المظلوم!
في مرات عديدة شاهدنا مدونين و صحفيين ارتكبوا ظلما في حق مواطنين أو في حق الدولة، ومع ذلك فقد خرجوا من تلك الأحداث والمعارك برؤوس مرفوعة، بينما خرج الضحايا برؤوس منكسة!
ما يُقال عن الصحفيين والمدونين يمكن أن يُقال عن الطبيب إذا ارتكب خطأ، وعن الأستاذ والمعلم والطالب وغيرهم من المنخرطين في اتحادات أو نقابات مهنية تدافع عنهم.
المؤسف في الأمر أن النقابات المهنية لم تعد تهتم إلا بمصالحها الضيقة كنقابات، ولا تهمها المصلحة العامة أو المصلحة العليا للبلد، ولذا فهي لا تدافع إلا عن مصالحها الضيقة، أو عن مصالح أعضائها، ودون أي مراعاة للمصلحة العامة. فنقابة الصحفيين تعودت على أن تدافع عن الصحفي ظالما أو مظلوما، ونقابة الأطباء تدافع عن الطبيب ظالما أو مظلوما، ونقابة الأساتذة تدافع عن الأستاذ ظالما أو مظلوما، ونادي القضاة يدافع عن القاضي ظالما أو مظلوما، وهكذا …
إنه يمكننا أن نكرر بالغدو والآصال أن موريتانيا تعاني من الفساد والتخلف، ولن يعترض أي أحد على ذلك، ما دمنا قد استثنينا ذكر الأشخاص الذين يتحملون بطبيعة الحال جزءا كبيرا من ذلك الفساد، وذلك لانخراطهم في أحزاب ونقابات واتحادات توفر لهم الحصانة.
يمكننا أن نقول إن العدالة فاسدة، ولكن بشرط أن نستثني القضاة من ذلك الفساد؛
يمكننا أن نقول إن الصحافة فاسدة، ولكن بشرط أن نستثني الصحفيين من ذلك الفساد؛
يمكننا أن نقول إن التعليم فاسد، ولكن بشرط أن نستثني الأساتذة والمعلمين من ذلك الفساد؛
يمكننا أن نقول إن الصحة فاسدة، ولكن بشرط أن نستثني الأطباء والممرضين من ذلك الفساد…وهكذا.
بهذا المنطق الغريب يمكننا أن نتوصل إلى استنتاج أغرب مفاده أن بلادنا تعاني من فساد كبير، ولكن لا يوجد بها مفسدون!
حفظ الله موريتانيا…