صادر عن المؤتمر السادس والثلاثين للسيرة النبوية المشرفة المنعقد تحت الرعاية السامية لفخامة رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وبالتعاون بين رابطة العالم الإسلامي والتجمع الثقافي الإسلامي في موريتانيا وغرب إفريقيا
شهدت البشرية في تاريخها الطويل صراعات كثيرة متعددة الأشكال والألوان والأعراق، كان لكل عرق بشري ولكل ملة من الملل ولكل قطر من الأقطار منها نصيب، وكانت أشد الحروب فتكا حروبا نشأت ونشبت في بلدان غير مسلمة. ومع ذلك فإن جل الصراعات التي تنخر في الجسم البشري اليوم، والتي تحظى بتغطية واسعة من الإعلام السيار، هي صراعات تقع في البلدان الإسلامية أو حولها. وقد كان لإفريقيا – القارة المسلمة – من تلك الصراعات نصيب موفور، مقترن تأثرا وتأثيرا بحزمة المشكلات التي تعاني منها هذه القارة، والتي تجسد بها صورة بارزة من صور الأمة في حال الوهن بكل مظاهره، من أمية وفقر وبطالة وسوء تسيير، وضعف تدبير للموارد المائية وموارد الطاقة، وخصاصة في الأمن الغذائي، وسوء توزيع للثروات، وانفلات أمني، ونزاع عرقي وقبلي وطائفي، واصطراع سياسي، كل ذلك بالرغم مما تتمتع به إفريقيا من أرصدة معنوية ومادية كبيرة تؤهلها لتغيير واقعها؛ فهي معنويا أول دار للهجرة، وأول ركن يأوي إليه المسلمون الرواد في كنف ملك عادل لا يظلم عنده أحد.. وهي قارة مسلمة بامتياز بالنظر إلى نسبة المسلمين فيها مقارنة ببقية القارات، وهي قارة عامرة ماضيا وحاضرا بالعلماء والصالحين المصلحين الذين أبلوا بلاء حسنا
في نشر قيم الإسلام السمحة وفي توحيد القبائل والشعوب تحت لوائه. وهي ماديا حلقة وصل استراتيجية بين قارات المعمورة، ومخزن عامر بثروات طبيعية كثيرة وكبيرة، بإمكانها أن تخرج الأفارقة وغيرهم من وهدة العوز، وأن تكون سببا في الاجتماع والانتفاع المشترك والنماء بدل أن تكون سببا في الفقر والاصطراع وإراقة الدماء.
في هذا السياق القاري الخاص، وفي ما يتصل به من سياق عام دولي، في عالم يموج بالصراعات الحادة والعصبيات الضيقة، يتعين على المسلمين في إفريقيا وفي قارات العالم أن يرهفوا أسماعهم لرسالة ربهم وهو يناديهم جل في علاه:
ﵟوَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ “؛ “وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ ” ؛
“فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ”
في هذا العالم الذي تختلط فيه أصوات كثيرة غير متناغمة، يتعين على المسلمين في إفريقيا وفي العالم أن يرهفوا أسماعهم ليلتقطوا صوت نبيهم، نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، ويستشرفوا حركته ويتأملوا رسالته التي وجهها إليهم وإلى البشرية، وهو ينادي محذرا من العصبية: “دعوها فإنها منتنة”، وهو يحذر من الاحتراب البيني: “أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”، وهو يمثل الأمة بالجسد الواحد، وهو يسن نظام المؤاخاة، وهو يضع أول دستور لتعايش المتساكنين المتباينين في معتقداتهم، وهو يبرم عقود الصلح مع من يقبلون الصلح ويجنح للسلم مع من يجنحون لها، وهو يضمد الجراح ويرأب الصدع ويعفو ويصفح، وهو يشكل من القبائل المتنازعة والأعراق المتنابذة أمة واحدة، تقترن وحدتها في الموقف والموقع بوحدة الرب المعبود “إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ”.
وإذا كان ذلك واجبا فرديا لكل مسلم، فإنه من باب أولى واجب أولي الأمر ومنهم العلماء والمشايخ والدعاة وصناع الرأي الذين يمسكون بأَزِمَّةِ القلوب، فإنه يفترض في هؤلاء أن يكونوا القوة الضاربة الناعمة التي تفتح القلوب وتتألف النفوس، وتصلح بالكلمة الطيبة والسعي الحميد والعمل الصالح وسلطان البرهان والبيان ما يفسده اللسان والسيف والسنان.
وفي هذا الشأن، وبالرجوع إلى تعاليم الدين الحنيف، وباستحضار ما جاء في وثيقة مكة المكرمة من مبادئ تبرز دور العلماء والقيادات الدينية في ترسيخ التعارف والتعاون وإصلاح ذات البَين، وتأييد مبادرات الحوار والتعايش وتعزيز المشتركات، فإنه مما ينتظر من رابطة العالم الإسلامي التي يمثل إعلان نواكشوط هذا ثمرة من ثمرات سعيها الحميد المشترك مع التجمع الثقافي الإسلامي بموريتانيا وغرب إفريقيا أن تتعاون مع التجمع ومع جميع الهيئات المعنية والمهتمة لمواصلة سعيها الدؤوب في تفعيل دور علماء الأمة ومشايخها في إصلاح ذات البين وفض النزاعات، وذلك عبر الأساليب والآليات التالية:
أولا – تشكيل لجنة من دعاة الإصلاح وسعاة الخير أصحاب الكلمة المسموعة، فقهاء الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، من دول عديدة، تناط بهم مهمة السعي العاجل في إصلاح ذات البين في عدد من بؤر التوتر والنزاع في القارة، على أن يمتد هذا المسعى إلى القارات الأخرى، بمشاركة شخصيات مرجعية دينية مؤثرة في كل ساحة مستهدفة.
ثانيا – العمل على تشكيل لجنة من العلماء والمشايخ المؤثرين في كل قطر من أقطار الأمة، بل وحيث توجد مجتمعات مسلمة معنية، تكون مهمتهم السعي لإصلاح ذات البين وفض النزاعات المحلية، بكل ما هو متاح من أساليب الوقاية والعلاج.
ثالثا –السعي لدى الحكومات لمراجعة المناهج التربوية وتعزيز التربية القِيمِيَّة بشكل خاص وجعلها أداة لصياغة الرؤى والمواقف وتقويم السلوك وفق ما يقتضيه الهدي النبوي من رحمة وإخاء ودعوة للوحدة ونبذ للتفرقة والعصبيات الضيقة. وفي هذا الصدد، من المهم أن تسعى الرابطة بالتعاون مع هيئات العمل الإسلامي المشترك إلى بناء نموذج للتربية القِيمِيّة تستنير به الدول والمجتمعات المسلمة في بناء مناهجها الخاصة.
رابعا – العمل على غراسة قيم الوحدة والتآخي والإنصاف في مسائل الخلاف وذلك بتحسين وتطوير مناهج تدريس السيرة النبوية العطرة، واستخدام كل الأدوات والقنوات المناسبة لهذا الغرض (المدارس، الجامعات، المنابر الدعوية والإعلامية، وسائط الاتصال الحديثة، إلخ).
خامسا –تطوير منهاج خاص جامع لتكوين الدعاة والخطباء، يجمع بين المتح من الأصلين (الكتاب والسنة) وبين استنطاق التجارب السابقة والراهنة التي نجحت في إدارة التنوع العرقي والعقدي والمذهبي وغيرها من أنماط التنوع البشري.
سادسا – السعي لتوفير مرجع جامع يستفاد منه في صياغة مناهج الدعوة والتربية القِيمِيِّة يتعين السعي لإعداد موسوعة علمية ترصد المبادئ والموجهات العامة والتجارب العملية القديمة والحديثة في حل الصراعات وإصلاح ذات البين وتعزيز الصلات بالاستفادة من هدي النبي الكريم وسيرته العطرة صلى اللـه عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
سابعا – العمل على معالجة جذور الداء في جوانبه المتأتية من ردود أفعال غير منضبطة تجاه أطراف خارجية، وذلك بتحصين البيت الداخلي وتفعيل آليات التضامن الإسلامي، والسعي الجاد مع الدول غير الإسلامية ومع المنتظم الأممي لسد منابع الاستفزاز والحيف والغلو والغلو المضاد واتخاذ ترتيبات حاسمة تضبطها اتفاقيات دولية لتجريم الإساءة إلى المقدسات.
حرر في نواكشوط بتاريخ 8 ربيع الأنور 1445ه/ 24 سبتمبر 2023م
المشاركون في المؤتمر السادس والثلاثين للسيرة النبوية المنعقد في انواكشوط