لاحظتُ في الفترة الأخيرة أن هناك مجموعة منظمة من أصحاب الحسابات الفيسبوكية تديرها “جهة ما” تتابع منشوراتي وتعلق عليها بانتظام وبنفس التعاليق مهما كان مضمون تلك المناشير. هذه التعاليق تكون في العادة عبارة عن صورة من “دراعتي تحتج” أو جملة تذكر بحراك “ماني شاري كزوال” مع طرح سؤال عن السبب الذي جعلني أتوقف عن الاحتجاج ضد ارتفاع أسعار المحروقات السائلة.
هذه إجابة على السؤال المتكرر سأقدمها في عدة نقاط لكل أفراد المجموعة، ولمن يقف وراءها.
(1)
لم يكن لحراك “ماني شاري كزوال” أي قائد، لا أنا ولا غيري. هذه معلومة مجانية أقدمها للمجموعة التي تعرف نفسها جيدا، وأنا لا أقدم هذه المعلومة هروبا من قيادة تشرفني لو أنها كانت قد حصلت، وإنما أقدمها احتراما للحقيقة. أقصى ما يمكن أن أوصف به في هذا المجال هو أني كنتُ واحدا من بين آخرين ساهموا في تأسيس هذا الحراك والتنظير له.
(2)
كنتُ من الذين يرون أن نجاح هذا الحراك لن يتحقق إلا إذا جاء بجديد يختلف عن الحراكات السابقة، ومن هنا فقد كنتُ أرى بضرورة الابتعاد قدر الإمكان عن المواجهة مع القوات الأمنية، وخاصة في بداية الانطلاقة، وذلك حتى يتمدد هذا الحراك ويصل إلى جمهور واسع لم يكن يشارك في الاحتجاجات السابقة، وإلى مناطق بعيدة لم تكن تصلها الاحتجاجات السابقة. لا يعني الابتعاد عن المواجهة مع قوات الأمن أن نترك أي وقفة تمت برمجتها، فمنذ انطلاق هذا الحراك لم تتوقف احتجاجاته في أي أربعاء في العاصمة نواكشوط. كل ما في الأمر هو أنا كنا نتفادى قدر الإمكان مواجهة الشرطة، ولكن دون التخلي بأي حال من الأحوال عن تنظيم وقفة الأربعاء في “كارفور مدريد”. أذكر أنه ومن باب إصرارنا على عدم التخلي عن وقفة الأربعاء، فقد نظمنا وقفة يوم عيد الفطر المبارك، وذلك لأنه صادف في العام 2016 يوم أربعاء. كما تمكنا أيضا في إطار توسيع الحراك من إيصال أنشطته إلى الكثير من ولايات الوطن : الحوضين؛ لعصابة؛ لبراكنة؛ تيرس الزمور..وهناك مدن وقرى أصبحت لها وقفات أسبوعية منتظمة : مكطع لحجار؛ ازويرات؛ نواذيبو..
(3)
كنتُ أيضا من الذين يرون أن نجاح هذا الحراك سيتوقف على قدرته على كسر الرتابة الاحتجاجية، وابتداع أساليب جديدة في الاحتجاجات، ومن هنا فقد تقدمتُ بفكرة “دراعتي تحتج”، أو “الدراعة اللافتة”. وتتلخص هذه الفكرة في أن نحول الدراعة التي نرتدي إلى لافتة متحركة توصل مطالب الحراك إلى أي مكان يمكن أن نصل إليه : الأسواق؛ المكاتب الحكومية؛ الندوات والمؤتمرات الصحفية… ومثل ذلك سيربك السلطة كثيرا فهي أن تركت الأمور تسير وفق ما أردناه فإن فكرة الدراعة اللافتة والملحفة اللافتة قد تصبح موضة، وستجعل من مطالب حراك “ماني شاري كزوال” ترفع في كل مكان، وإن هي بدأت في مصادرة ثياب المواطنين، فمثل ذلك سيظهر تسلطها وسوء أفعالها. يمكن أن تلاحظوا أيضا أن الدراعة اللافتة كانت خالية من جيب، وهو تعبير رمزي عن انعدام القوة الشرائية للمواطن.
هذه الفكرة وقف ضدها بعض الناشطين في الحراك، وعملوا كل ما في وسعهم على تشويهها، وقد نجحوا إلى حد ما في تشويهها، ورغم ذلك فقد استطاعت هذه الفكرة أن تعطي جرعة جديدة من الحماس للحراك الذي كان يعاني في ذلك الوقت من تراجع ملحوظ. كما أن هذه الفكرة تمكنت من الخروج من حدود بلادنا، فاستنسخها بعض الصحراويين في أنشطتهم الاحتجاجية.
(4)
لقد انسحبتُ من هذا الحراك بهدوء وصمت لما تبين لي أنه يسير في اتجاه مسدود، تاركا الفرصة للآخرين، وكان ذلك في عهد الرئيس السابق، وقد واصل بعض النشطاء من بعدي تنظيم الوقفات من قبل أن يتوقفوا هم أيضا. يعني ذلك أن انسحابي من الحراك لم يكن في هذا العهد، وإنما كان في عهد الرئيس السابق.
(5)
هناك من يذكرني دائما بأن أسعار المحروقات لم تنخفض، وبفكرة “دراعتي تحتج”، وبحراك “ماني شاري كزوال”، وهناك من يطلب مني أن أحتج من جديد ما دامت أسعار المحروقات لم تنخفض. لكل هؤلاء أقول بأنه لا “مشاريع احتجاجية” لدي في الوقت القريب، وأقول لهم أيضا بأن حراك “ماني شاري كزوال” قد انطلق عندما انطلق من خلال الفيسبوك، فلماذا لا ينزلون هم إلى الميادين، ويطلقون نسختهم من حراك “ماني شاري كزوال”، خاصة وأن بعضهم يمتلك عشرات الآلاف من المتابعين؟
قد يكون من السهل جدا توجيه النقد والإساءة إلى الآخرين، ولكن تنزيل الأفكار وتحويلها إلى أنشطة ميدانية ليس بالعمل السهل المتاح للجميع، ولذا فليس من المستغرب أن يوجه إليك البعض نقدا لاذعا بل مسيئا، وذلك لأنك لم تخض احتجاجات بالوكالة عنه وعن آخرين يريدون إشعال الاحتجاجات لا لتخفيض الأسعار، وإنما لمآرب أخرى لم تعد خافية على كل ذي بصيرة.
إن الاحتجاجات بالنسبة لي ليست هدفا في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لإيصال مطالب المواطنين للسلطة الحاكمة، والسلطة الحاكمة حاليا قد أتاحت لي ولغيري وسائل أخرى لإيصال تلك المطالب إليها، وما دام هذا الأمر متاحا لي فلا تنتظروا مني الدعوة إلى أي احتجاج يريد من يقف خلف مجموعة المعلقين استغلاله لمآرب أخرى.
(6)
خلال السنوات الماضية شاركتُ ولما يزيد على عام في حراك “ماني شاري كزوال”، والذي كان حراكا احتجاجيا يعتمد على الوقفات الاحتجاجية لإيصال مطالبه. للأسف لم يتمكن هذا الحراك ـ رغم طول نفسه الاحتجاجي ـ من أن يحقق مطلبه الوحيد الذي رفعه، وهو المطلب المتعلق بتخفيض أسعار المحروقات. صحيح أنه تمكن من أن يجعل موضوع ارتفاع أسعار المحروقات حاضرا في الخطاب السياسي، وحتى في الأحاديث اليومية للمواطنين، ولكنه مع ذلك فشل فشلا ذريعا في أن يحقق أي اختراق على مستوى تخفيض الأسعار.
كما شاركتُ أيضا خلال السنوات الماضية في أنشطة حملة “معا للحد من حوادث السير” ، والتي لم تكن لها أي أنشطة احتجاجية، بل كانت مجرد حملة توعوية وتحسيسية. في هذه الحملة حققنا بعض المطالب في عهد الرئيس السابق دون أي نشاط احتجاجي. لم ننظم أي وقفة للاحتجاج على رداءة وتهالك الطرق، ولكننا في المقابل كنا نكتفي بردم بعض الحفر للفت الانتباه إلى تهالك الطرق، وكانت عملية الترميم الرمزية التي نقوم بها تؤدي في بعض الأحيان إلى تدخل الدولة لترميم المقاطع التي توجد بها تلك الحفر المرممة. كما أن أنشطتنا التوعوية عند نقاط التفتيش جعلت الدولة تتدخل لتنظيم أنشطة موازية، وأذكر أنه في بعض الأحيان أطلقت الجهات المعنية حملات ضد الحمولة الزائدة بعد أن صورنا ووثقنا ونشرنا بعض المخالفات في هذا المجال.
(7)
من تجربة حراك “ماني شاري كزوال” وحملة “معا للحد من حوادث السير” توصلتُ إلى استنتاج مفاده أن الحملات التوعوية قد تكون في بعض الأحيان أكثر تأثيرا من الحراكات الاحتجاجية. وفي اعتقادي الشخصي فإن الحملات التوعوية في العهد الحالي قد تكون أكثر تأثيرا من الاحتجاج.
هذا الاستنتاج أقدمه هنا لأكرر القول بأنه لا “مشاريع احتجاجية” لدي في المستقبل المنظور، وإنما هناك مشاريع توعوية جديدة في مجال محاربة الفساد، والذي أعتبره من أخطر ما يهدد هذه البلاد.
حفظ الله موريتانيا…